“كرنفال الكورونا”: كيف احتفينا بالفايروس؟
في سياق الظروف الراهنة بما يتعلق بالانتشار العالمي لفيروس كوفيد-19 والملقب شعبيا بفيروس كورونا، ظهرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الإعلام الرسمي وغير الرسمي مقاطع فيديوهات وصور ملأت بشراسة فضاءاتنا الإلكترونية حول ما تقوم به السلطة الوطنية الفلسطينية من إجراءات في مواجهة الفايروس القاتل، العدو غير المرئي، من إغلاق للمرافق العامة والخاصة وفرض منع التجول في المناطق التابعة للسلطة. تحديداً صور أفراد الأجهزة الأمنية ومسؤوليهم خلال قيامهم بعملهم في ظل الأزمة الراهنة، وخصوصاً وقوفهم على “حواجز المحبة” كما فضلوا هم تسميتها، وهي الحواجز التي تقيمها الأجهزة الأمنية داخل المدن الفلسطينية وعلى أطرافها لفرض الإجراءات المقررة من قبل الحكومة بما يتعلق بحد حركة المواطنين في محاولة منها لمنع انتشار الوباء.
هذه المشاهد قد تتكرر بطبيعة الحال في مختلف أنحاء العالم، لرجال أمن جنباً إلى جنب مع الطواقم الطبية يقومون بعملهم المحفوف بالمخاطر، حفاظاً على أرواح الناس. كل الدول الرأسمالية بشكل أو بآخر تضع اليوم جل استثماراتها في الأمن، في المنظومة الأمنية أولاً، هذا مفهوم، ويعد “طبيعياً” في سياق عالم اليوم، وبالتالي فإن العالم يستخدم ما استثمر فيه لدرء الخطر عنه.
الأمر مشبع بخصوصية مختلفة هنا، أي مناطق “أ” في الضفة الغربية – والتي بالمناسبة تسمى تجاوزاً: فلسطين – حيث يتصدر المشهد الطاغي على شاشتنا وشبابيكنا الافتراضية على العالم رجال الأمن فقط، بدون أطقم طبية تذكر في الصورة، ويغلب على معظم المقاطع المصورة طابع دعائي، شكل استعراضي ما، مغلف بقالب تبشيري إما بإضافة موسيقى درامية أو حتى عبارات دراما-وطنية إن جاز التعبير، مهمتها إقناعنا كمتلقيين بأهمية ما يقوم به الأمن الفلسطيني من أجل الوطن ومن أجلنا، نحن الجالسين في بيوتنا، دفعاً للخطر عنا وعن وطننا. والصورة الثابتة دوماً: خلفية موسيقية حماسية، شباب وطني ملتزم بلباس عسكري مدجج بالأسلحة، يبذل جهده في درء الفايروسات عن مجتمعه، وهمه الوحيد في هذه اللحظات الحفاظ على أفراد هذا المجتمع من الإنقراض.
المحزن أن الأجهزة الأمنية فشلت تاريخياً في درء الخطر الأكبر عن المواطنين الفلسطينيين، ألا وهو الاحتلال، إلا أنها ترى في هذه الظروف فرصة كرنفالية لشرعنة ذاتها وشرعنة ما تقوم به باسم الجائحة. إن الحاجة لمكافحة وباء ما، يأتي من مربع إنساني بالأساس، لذا زخرفة الإجراءات الوقائية بشعارات وطنية، ما هي إلا محاولة لاستخدام المصائب في تعزيز شرعية النظام السياسي القائم، والذي يبحث جاهداً عن “انتصارات”، ولو شكلية، لتعزيز هذه الشرعية.
الصورة والاستعراض تحت سياط الخوف
جزء كبير من عالم اليوم الحديث، مبني على الصورة، على النسخة من الأشياء، عن التصورات المفترض أنها منقولة من “العالم الحقيقي” عبر العالم الافتراضي، فيصبح هذا العالم الافتراضي بشكل أو بآخر بوسائطه المتعددة وبعلاقاته المعقدة مع الجمهور المتلقي هو العالم الحقيقي ، حيث تمر من خلاله كل المعلومات بضبط المرسل وبزوايا نظره التي يريد، راسماً صوراً تبشيرية عن الأيديولوجيات التي يود تمريرها عبر الصورة.
تقاس قوة سلطة ما – بالذات في عالم اليوم – بمدى قدرتها على إنتاج الصورة. إذ تستخدم السلطة هذه الاستراتيجية لرسم صورتها التي ترغب أن ترى نفسها عليها وأن تراها عليها رعيتها.
لذا، فإن الاستعراض هو حرب دائمة تشنها السلطة – أي سلطة – وبهدف إجبار الناس على قبول خطابها بكليته، وتحديداً في الأزمات التي يكون فيها المواطن خائفاً من حدث جلل – كانتشار الوباء في هذه الحالة. فيأتي خطاب/استعراض السلطة ليصورها على أنها المُخلِّص الوحيد في ظل الأزمات مستغلة خوف الجماهير. لتثأر -ربما- بأثر رجعي من فشلها سابقاً على كل المستويات والقطاعات المختلفة من ناحية، ولتعيد تعزيز شرعيتها وتثبيت فكرة أنها شبكة الأمان الوحيدة في ظل الأزمات من ناحية أخرى.
كما يأخذ الاستعراض السلطوي عادة شكلاً طوباوياً أكثر في اللحظة التي تحقق فيها السلطة احتلالها الكلي – نسبياً – للحياة الاجتماعية، عندما تصبح السلطة مركز تطلعات الجمهور الأول والأهم. حيث تمتلك السلطة كل المعلومات، فتقدم ما تود تقديمه وتحجب ما تود حجبه، فيغذو خطاب السلطة الذي تنتجه وتبثه أذرعها الإعلامية كافة هو الحقيقة/المعرفة الوحيدة التي تراها الرعية.
هنا تحديداً، أعتقد أن صياغة هذه الصورة الاستعراضية للسلطة، ليس اعتباطياً بالمطلق، بل منهجاً محسوباً في عالم قائم على قوة الصورة فيه على إنتاج الخطاب، وقدرة الإعلام بأشكاله المختلفة على إعادة إنتاج هذا الخطاب وترسيخه. إن الصورة هنا ليست مجرد أداة إذن، بل هي نفسها إعادة إنتاج لبرادايم العلاقات الاجتماعية والثقافية في المجتمع، تثبت فعاليتها أكثر في حالات الخوف ـ أو التخويف بشكل أدق.
يتجلى جزء كبير مما ذكر أعلاه في قرار السلطة بحرمان عائلة نشأت المدلل (الذي توفي جراء إصابته بالفايروس في مدينة طولكرم) من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على فقيدهم. وفي الصورة غير المبررة لأفراد الأمن المرافقين لتابوت الفقيد بلباس أبيض عازل يكسر رتابته الأسلحة على أكتاف رجال الأمن المرافقين للتابوت إلى مثواه الأخير، في رسالة ضمنية تقول: نحن، كأمن، نسيطر على شكل الموت في ظل الكورونا أيضاً، فاعتبروا.
تسليع الذات!
لماذا تستعرض السلطة الوطنية علينا من خلال الفايروس، إذن؟، الجواب الجوهري لهذا السؤال هو في الحقيقة ليس فقط رغبة الحكومة في تعويض فشلها على مدار عدة عقود سابقة على كل المستويات: سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وفي كل القطاعات: التعليم، الصحة، الثقافة، باستثناء قطاع الأمن بالضرورة. بل في تكليل نفسها في إدارة الحالة العامة.
تم الاحتفاء بالإجراءات المبكرة التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية خلال خطاباتها باعتباره إنجازاً وطنياً حافلاً، من خلال تسويقها المتكرر لإشادة منظمة الصحة العالمية بهذه الإجراءات. إن كل هذا ما هو إلا استكمالاً لصناعة الصورة. فكلنا يعرف أن السلطة الوطنية الفلسطينية لا تملك خياراً إلا بفرض أشد الإجراءات لمنع انتشار الفيروس بسبب معرفتها الدقيقة ومسؤوليتها المباشرة عن اهتراء المنظومة الصحية الفلسطينية، والتي ما كان بمقدورها الصمود لساعات قليلة لو أن الوباء انتشر فعلاً في الضفة الغربية. إلا أنه تم استغلال هذه الإجراءات في صناعة وترويح صورة/خطاب يثبت لها ولغيرها قدرتها على إدارة “الأزمات”، ومحاولة بذلك إيصال رسالة ضمنية مفادها أن السلطة في حال أثبتت نجاعتها في إدارة الأزمات وحالات الطوارئ، فهي بالضرورة قادرة أيضاً على إدارة حالات “الاعتياد”.
تحاول السلطة هنا استخدام الاستعراض الخطابي الصوري لتسليع وبيع ذاتها، كمؤسسة ناجحة في السيطرة على انتشار الوباء وضبط حركة العامة من جهة، وعلى قدرتها على الالتزام بالتعليمات والمعايير الدولة من جهة أخرى.
“كرنفال” الفلسفة الهشة
من المثير للاهتمام كيف تتغير، في ظل هكذا ظروف، وتحت الخوف، علاقة السلطة ومنظومة العنف التابعة لها بأفراد المجتمع، حيث شهدنا في بداية الأزمة وبكل علنية على وسائل التواصل الاجتماعي أعداد كبيرة من الناس تطلب من الحكومة فرض إجراءات أقسى لقمع غير الملتزمين بتعليمات الحكومة، وذلك من باب الحفاظ على ذواتهم أولاً، وعلى مجتمعهم ثانيا. المثير أيضاً للاهتمام أنّ الناس أنفسهم يستخدمون بشكل أو بآخر نفس الأسلوب الخطابي للسلطة، أسلوب مغلف بالقالب “القومي”. ولكن الأكثر إثارة للاهتمام أن هناك أصوات قليلة جداً كانت تجرؤ على مطالبة السلطة بوقف أشكال قمعها المتنوعة خلال السنوات الماضية.
لذا، يبدو أن السلطة الفلسطينية استطاعت هنا بنجاح فرد عضلاتها في احتفال غير معلن بسيطرتها لغاية هذه اللحظة على انتشار الفايروس، وإقناع الناس بأهمية دور هذه المنظومة الأمنية التي استنزفت جيوبهم.
وهنا تحديداً باعتقادي، يكمن “الانتصار” الحقيقي للسلطة اليوم. وهو إضافة طبقة إضافية من الشعاراتية الهائلة التي تختبئ خلفها هذه السلطة تاريخياً. فالسلطة كنظام سياسي، قائمة على أرضية فلسفية في منتهى الهشاشة، ولا تمتلك أي أيديولوجيا حقيقية تراكم من خلالها باتجاه مشروع وطني، في حين أن كل السيكولوجيا السلطوية في هذا النظام مبنية على الادعاءات الزائفة المغطاة بالبدلات الأنيقة، وبالابتسامات “الكرنفالية”، والاستعراض اللغوي، فالبلاغة استعراض قاتل أيضاً.