الصحّة مقابل الحريّة

في عام 2018 أصدرت غالوب العالميّة، تقريرها السنوي الثاني والأربعين، بعنوان صوت الناس[1]، الذي استطلع آراء 58 دولة حول العالم. وتحت بند الرضى عن الحكومة المحليّة، أجاب (37%) بالرضى، (38%) بعدم الرضى. أمّا تقريرها لهذا العام، فقد أشار إلى أنّ معظم الشعوب تقف خلف حكوماتها في المعركة ضد الوباء[2]. ولكن ما المستجد الذي دفع الشعوب إلى تحويل مواقفها من الحكومات المحليّة في غضون عامين فقط؟


عالميّاً


منذ أن أعلنت منظمّة الصحّة العالميّة فايروس كوفيد-19 وباءً عالميّاً، شرعت معظم حكومات العالم بفرض مستويّات متباينة من أنظمة الطوارئ، وتبوّأت منظمّة الصحّة العالميّة موقع المرشد العالمي، لإنتاج المعرفة “الصحيحة” حول الفايروس وطبيعته ونشأته وطرق الوقاية منه، والتأكيد على أنّ الفايروس جاء نتيجة تطوّر طبيعي دون تدخل بشري لتحييد نظريّات المؤامرة، وأنّ إنتاج العقار بحاجة لأشهر، وأنّ النظافة الشخصيّة والتباعد الاجتماعي هي السلوكيّات الأساسيّة لتسطيح منحنى انتشار الفايروس. قام فيسبوك، شركة التواصل الاجتماعي العملاقة، بتفعيل نظام يمنع الإشاعة والمعلومات المضللة، يصل إلى حذف المنشورات أو التعليق المؤقت لحق صاحب الحساب بالنشر. وباعتماده منظمّة الصحّة العالميّة كمرجع، غدا تعريف فيسبوك للمعلومات المضللة، بأنّها تلك المتعارضة مع المعلومات الصادرة عن المنظّمة، وعليه حذف المنشورات التي تقدم نصائح من الطب الشعبي أو تهوّن من الوباء أو تتبنّى نظريّة المؤامرة.


هل منظمّة الصحّة العالميّة الملاك الحامي للشعوب؟


 نستذكر أنّ الاتحاد السوفييتي قاطعها منذ 1949، واتهم بعثاتها بفرض أجندات تفصل بين المشاكل الصحيّة والمشاكل الاقتصاديّة الاجتماعيّة، معززاً الاستقطاب بين معسكرين رئيسيين في العالم، معسكر يطالب بتسخير العلوم  لخدمة البشريّة، ومعسكر يسخرها للربح والحرب والهيمنة[3]. رغم ذلك تبنّت معظم دول العالم توجيهات منظمّة الصحّة العالميّة، وفرضت أذرعها الأمنيّة المدعّمة بوسائل الإعلام الرسمي أنظمة طوارئ شموليّة، وطُردِت الجماهير إلى منازلها خائفة مذعورة؛ ليتشكّل مشهد عالمي تعيش فيه البشريّة في لجوء قسري داخل منازلها، تنتظر المعطيّات والتعليمات الجديدة من الإعلام الرسمي، الميادين العامّة خاوية إلّا من الشرطة والأطباء، قطاعات الاقتصاد المالي والاتصالات والإنترنت تراكم الأرباح، وقطاعات الاقتصاد الإنتاجي متعطلة تماماً، ارتفاع مفاجئ وكبير في معدلّات البطالة والفقر والمجاعة حول العالم، البشريّة خائفة غارقة في لجّة اللايقين، تتنازل عن حقوقها وحريّاتها مقابل الصحّة والسلامة، في حقبة تنتج أيديولوجيا معولمة تفيد بأنّ الصحّة الجسديّة تعتمد على الخوف من الآخر والتباعد عنه، مقابل الثقة بالنظام العالمي وبمنظمّة الصحّة العالميّة وبحكومتك المحليّة وأجهزتها الأمنيّة وبالمختصين والخبراء والأطباء. أيديولوجيا عالميّة تدعو لعدم الثقة بالمجتمع مقابل الثقة بالخبراء وبالأمن والبيروقراطيّة.


أيديولوجيا جماهيريّة عالميّة تستجدي قمع الحريّات كسبيل وحيد للصحّة والسلامة. هذا ما تؤكدّه نتائج استطلاع الرأي الذي نفذّته منظمّة غالوب العالميّة لهذا العام، في 22 دولة حول العالم تشمل دولة فلسطين. يلخّص د. نبيل كوكالي نتائجه[4]: “عبّر ثلثي المستطلعة آراؤهم عن قلقهم على أنفسهم وأحبائهم فيما يتعلق بفيروس كورونا. ويقول ثلاثة أرباعهم إنهم مستعدون حتى للتضحية ببعض حقوقهم الإنسانية إذا كان ذلك يساعد. وتقف معظم الشعوب وراء حكوماتها في هذه المعركة. ولكن في الوقت نفسه يوافق أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم على أن تهديد الفيروس قد يكون مبالغًا فيه. لا يعرف الناس في جميع أنحاء العالم ماذا يتوقعون في الأسابيع القادمة، انفراجاً أم تدهوراً للوضع. إنّهم لا يعرفون ما إذا كان انتشار هذا الفيروس أمراً مقصوداً، لكنهم يعتقدون أنّه ليس كذلك، وفي غضون ذلك يتخذون إجراءاتٍ لمحاربته.”


محليّاً


السلطة الفلسطينيّة ليست استثناءً إلّا من حيث الإمكانيّات وغياب السيادة. انحصر أداؤها في تعزيز الأمن لفرض الإغلاق وقمع الحريّات، والإعلام الرسمي لنشر التوجيهات والتحذيرات ومستجدّات الإصابات. مارست الأجهزة الأمنيّة الاعتقال على خلفية نشر الإشاعة أو انتهاك التعليمات الرسميّة. كما فرضت الحكومة الفلسطينيّة نظام طوارئ ألحق آلاف الأسر بصفوف البطالة القسريّة الطارئة، وزاد معدلّات الفقر والاستدانة، دون أن يرتقي أداؤها الاقتصادي والاجتماعي ولو بالحد الأدنى، للتبعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الخطرة الناجمة عن نظام الطوارئ. جاءت نتائج الاستطلاع العالمي في فلسطين مؤكدة على ذلك. 84.6% أبدوا قلقهم من انتشار الفايروس. 71% أبدوا الاستعداد للتضحيّة ببعض الحقوق الإنسانيّة إذا كان ذلك سيساعد في الحدّ من انتشار الفيروس. 67.3% يعتقدون أنّ أداء الجهات الصحيّة الفلسطينيّة بشكل عام كان جيّداً إلى جيّد جداً. 62.3% يعتقدون أنّ أداء الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة التي تعمل لضبط الأمور وعدم إثارة الهلع والخوف لدى الجمهور الفلسطيني في الوقت الحالي، كان جيّداً إلى جيّد جداً. إلّا أنّ 70.7% من المستطلعة آراءهم في فلسطين أجابوا، أنّ الوضع الاقتصادي لعائلاتهم في ظل انتشار الفايروس تأثّر بدرجة متوسّطة إلى درجة كبيرة[5].


يمكن تلخيص النتائج في فلسطين: رغم الأضرار الاقتصاديّة الكبيرة والتضحيّة بالحقوق الأساسيّة، فالفلسطينيّون راضون عن أداء قطاعات الأمن والصحّة. نتائج الاستطلاع عالميّاً ومحليّاً، تحمل دلالات متعارضة، إذ تفقد الشعوب حريّاتها وحقوقها وتعاني أضراراً اقتصاديّة خطيرة، وفي نفس الوقت يرتفع تأييدها للأنظمة. كيف يمكن فهم هذه المفارقة؟


الإجابة تدعونا لاستعادة ذاكرة الأنظمة الفاشيّة والنازيّة في مطلع القرن الماضي، حين وثقّت تلك الأنظمة شرعيّتها الجماهيريّة، من خلال التحشيد الدائم للحرب والبثّ الدائم للذعر والخوف. هذه التوليفة استخدمها النظام الأمريكي بعد أحداث 11/9، لبثّ ذعر معولم من الإرهاب يُشرعن حرب عالميّة ضدّه، وتحت هذه الذريعة تغيّر النظام العالمي، بحيث صرنا نقول العالم قبل وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واشتدت إجراءات وتدابير الأمن والرقابة في كل دول العالم وعلى الحدود والمطارات. كررت الولايات المتحدّة التجربة في خلق ذعر عالمي حول وجود أسلحة دمار شامل في العراق، كمقدمّة لغزوه وإسقاط نظام صدّام حسين. كما استخدمت بعض الأنظمة العربيّة توليفة الخوف لاكتساب الشرعية وإسكات الأصوات المعارِضة في إجهاض احتجاجات الربيع العربي، بعد أن استخدم الكيان الصهيوني هذه التوليفة لبث الذعر العالمي من العمليّات الإرهابيّة بنظره، لتبرير التوسّع الاستيطاني وتعميق قمع الفلسطينيين ومازال. نتائج استطلاع الرأي عالميّاً، تثبت نجاح هذه الاستراتيجية؛ فالجماهير خائفة وقلقة، وتعاني أضراراً اقتصاديّة خطرة، وتتنازل عن حقوقها الأساسيّة، وفي نفس الوقت ترتفع معدلات ثقتها بالحكومات ولا تقبل تشديد الأمن والرقابة فحسب، بل تطلبه! وهذا ينطبق على الفلسطينيين. ما يطرح سؤالاً أكثر جوهريّة: من أين اكتسبت منظمّة الصحّة العالميّة هذه الشرعية الواسعة؟ ومن أين يكتسب النظام الفلسطيني هذه الشرعيّة التي تخوّله للتدخّل المباشر بشكل الحياة، وتضعه ممثلاً لمصلحة وصحّة وسلامة الفلسطينيين؟ فولاية رئيس السلطة انتهت منذ سنوات، والمجلس التشريعي غير موجود، والوزراء يتم تعيينهم بدون الرجوع للشعب!


نعيش في عصر إعادة إنتاج العبوديّة؛ الصحّة مقابل الحريّة. سقف مطالب الجماهير هو البقاء فقط، دون اعتبار لشكل البقاء! وهذا أخطر ما في الأمر.


ملاحظة: حقوق الصورة لفلسطين اليوم.




[1] Gallup International. 2018. Voice of the People- 42nd Annual Global End of Year Survey.


[2] Mccarthy, Justin. Feb 20, 2020. High Confidence in Government to Handle Coronavirus. Gallup.com


[3]  كيّال، مجد. 5 أبريل، 2020. إن كنّا نثق بمنظمة الصحّة العالميّة.. متراس.


[4] http://pnn.ps/news/499842


[5] المرجع السابق.