الفيروس المعولم وشوفينية النيوليبرالية تجاه العمالة المهاجرة

كشف وباء كوفيد 19 المستجد حقيقة وجوهر الرأسمالية، التي لا ترى في العمال سوى موضوعاً لخلق فائض القيمة الذي يتكدس في خزائنها، فإذا ما تعطلت قوة العامل الخالقة لفائض القيمة، يصبح غير ذي شأن وبلا قيمة، سواء كان ذلك بشيخوخته أو مرضه أو إعاقته أو وجود كارثة طبيعية. هذه هي حقيقة الرأسمالية، فكيف الأمر بالنسبة لرأسمالية متوحشة، تعلي من شأن الربح على حساب الحياة المهددة في كل لحظة ولكل فرد.


لا يرى مهووس بالمال مثل ترامب شيئاً آخر غير دوران العجلة الاقتصادية، لذلك فهو يعطي وصفات طبية مجنونة مثل الحقن بالديتول، ولا يرى عقل استعماري مثل نتنياهو غير مزيد من تعزيز القوة واستغلال العمالة الفلسطينية، دون أن يقدم لها أي حقوق، فحقوقها هناك وراء خط الهدنة الذي يسعى كل ثانية للانقضاض عليه ومحوه نهائيا، من خلال إصراره على ضم الأراضي الفلسطينية تمهيداً لمصادرتها، أما الوباء فهو آخر همه، ويتمنى في سره لو أنه (أي الوباء) يستطيع اختيار الأفراد والأديان والقوميات ليصيبها، وبالذات الشعب الفلسطيني.


بالنسبة للعمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، يعتبر الأمر إشكالياً، فهم ليسوا عمالة مهاجرة بالمعنى التقليدي للهجرة، كما أنهم في نفس الوقت يخضعون لكل صنوف القهر والاستغلال الذي تتعرض له العمالة المهاجرة، وفوقها حالة الاستلاب القومي الذي يسحقهم.


عدا ذلك، ملأ الصراخ السماء من الرسميين وغير الرسميين، بأن هؤلاء العمال هم العامل الرئيس في نقل الوباء إلى الضفة الغربية، فنصبت لهم الحواجز، وطالبتهم أن يبقوا في أماكن عملهم، وألّا يعودوا لبيوتهم ثم تراجعت وطالبت بأن يُخضِعوا أنفسهم للحجر المنزلي، وذلك كله مرفق بخطاب إعلامي حول مسؤولية الاحتلال عن صحتهم، دون أن يرافق ذلك أي طلب رسمي بحل هذه المشكلة من جهة، ودون أن تقوم السلطة نفسها بتنظيم العودة بشكل أكثر حضارية من المطاردة عند البوابات. لقد بنى الخطاب الإعلامي موقفاً شعبياً ضد هذه الطبقة المستلبة، لكنه لم يقدم لهؤلاء العمال سوى فحوص سريعة.


هذا الأمر دفعنا إلى النظر بشكل شمولي نحو ظاهرة العمالة المهاجرة، وأثر الفيروس المعولم عليها. بلغت الشوفينية بصحيفة نيويورك تايمز أن تصف العمال المهاجرين؛ بأنهم ليسوا فقط ضحايا الفيروس بل هم أيضا سبب رئيس في نقله، وهنا تظهر مركزانية واستعلاء الرجل الأبيض والرأسمالية ما بعد الإمبريالية، حين تعفي نفسها من مسؤولياتها، وتلقي باللائمة على الفقراء من العمال المهاجرين.


أما دول الخليج فقد بين تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية وآخر لمنظمة العفو الدولية، أن العمالة المهاجرة “تحملت العبء الأكبر من تفشي فيروس كورونا”، لأنهم يعيشون في مخيمات مكتظة وبدون عمل، وينسى التقرير أن سعي هذه البلدان نحو تشغيل أيدي عاملة رخيصة، وبدون حقوق اجتماعية أو صحية، هو سبب إصابتهم بالمرض وعدم قدرتهم على الإيفاء بتكاليف علاجه.


دول الخليج التي اعتصرت عرق العمال المهاجرين وجهدهم مقابل أجور بخسة، قامت بتسريح هؤلاء العمال وترحيلهم، فهم الآن زائدون عن الحاجة في ظل تعطل العمل، فيما لم تقم دولهم الأم التي تتلقى حوالاتهم المادية، بأي مقاومة لهذه الإجراءات، أما تبرير هذه الدول لسلوكها فكان أنها” تحاول موازنة المخاطر على العمال بالخطر على المجتمع بشكل عام”. هذا التبرير الذي لا يرى في العمال بشرًا لهم حقهم في الحياة، بل مجرد عبيد لما يسمونه “المجتمع”، هو عنصرية طافحة تجاه من يبذلوا عرقهم لصالح هذا “المجتمع”!


وقالت منظمة العفو الدولية (أمنستي)، إن قطر احتجزت عشرات العمال المهاجرين قبل طردهم الشهر الماضي، بعد أن أبلغتهم بأنهم سيخضعون لفحص فيروس كورونا المستجد. ونقلت عن 20 رجلاً نيبالياً قولهم إن الشرطة القطرية ألقت خلال 12- 13 مارس/ آذار الماضي، القبض على مئات العمال المهاجرين في الشارع، ثم احتجزتهم لعدة أيام قبل نقلهم جواً إلى بلادهم. وقالت منظمة العفو الدولية، إن جميع العمال غادروا قطر دون تلقي رواتبهم المستحقة أو مستحقات نهاية الخدمة.


يكشف هذا بشكل ساطع، أن هذا الفيروس المعولم الذي لا يفرق بين الأفراد، أنتج فيما أنتج ميكانزمات دفاع لدى الدول المشغلة ولدى الشركات أيضاً، تقضي بالتباعد الاقتصادي والقومي، بمعنى أن ما فكّرت به هذه الدول هو حماية مواطنيها الأصليين، وحماية أرباح الشركات، ففي حين ينتشر الفيروس بدون حدود، تصنع الدول الرأسمالية الموقعة على اتفاقية منظمة التجارة العالمية؛ التي تنص على حرية انتقال البضائع والأفراد ورأس المال بين الدول، حدودها في لحظة الخطر دون أي اعتبار لكل نظريات الاعتماد المتبادل، وكل الثقافة المرافقة حول الإنسانية والشفافية وحقوق الإنسان.


فالعمال المهاجرون بالنسبة لهذه الدول والشركات هم قوة عمل نشطة رخيصة الأجر، وتوفر أعلى نسبة من الاستحواذ على فائض القيمة وجني الأرباح في الأوقات العادية، فإذا أصبح الأمر يتطلب تكلفة أعلى من المشغلين، بات التخلي عنهم هو الوسيلة الأسهل، مرتكنين إلى ضعف الدول المصدرة للقوى العاملة، إضافة إلى النزعة الأنانية المتأصلة في الرأسمال الذي يريد أن يتحرك في كل المجالات دون عائق، فإذا وصل الخطر إلى حياضه كشر عن أنيابه القاتلة.


هذه هي النيوليبرالية في درجة التوحش الكاره للبشرية، والمقدس لتراكم الثروة، وهذه أيضاً هي الدول التابعة والمصدرة للقوى العاملة، في حالة من العجز وعدم القدرة على الدفاع عن حقوق مواطنيها.