الفلسطينيون في غزة المحاصرة
بقلم: عثمان حسين
الواقع يقول إن قطاع غزة تحكمه حركة حماس بقوة السلاح منذ خمسة عشر عاماً تقريباً، ونظراً لمرجعيات حماس الحزبية، وانتمائها لحركة الإخوان المسلمين (الأم)، روحاً وممارسة على الأرض، فإن هذا المعطى أحدث شرخاً اجتماعياً هائلاً في بنية المجتمع (الغزّي)، والتي تشكّلت -البنية- على مدار عقود منذ نكبة العام 1948م حتى يومنا هذا.
السلطة الحاكمة في غزة، سلطة دينية حزبية غير وطنية [خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية]، وهذا الوصف يتجلّى في طبيعة العلاقة القائمة على ثنائية القوة والعنف من ناحية الحاكم/السلطة، والرفض والتحدي من قبل المواطنين. فالسلطة الحاكمة ومريدوها يشكّلون أقليَّة عددية ومفاهيمية في مواجهة عامة الناس، حيث يتَّضح ذلك من خلال حضورهم الفعلي على الأرض في مناسباتهم الحزبية الاستعراضية وأدبياتهم الفقيرة معرفيًا، إلا أنهم حافظوا على علاقات غير عادية بينهم (السلطة ومريدوها) سمحت لهم بالبقاء على رأس الهرم المجتمعي، أمنياً واقتصادياً وصحياً، والأمثلة لا تعد ولا تحصى، بل يستطيع المواطن العادي قراءة المشهد دون عناء نظراً لازدحامه -المشهد- بتفاصيل يومية في كل مناحي الحياة.
أما على صعيد الممارسات التمييزية، فالحديث ذو شجون لو تحدثنا حول مختلف القطاعات الحيوية للمواطن، بدءاَ بالقطاع الخدماتي من كهرباء وماء وصحة وتعليم، مروراً بالقطاع الزراعي والتجاري إلى أن نصل إلى قطاع الشباب والخطط التشغيلية لهذا الكم الهائل من العاطلين عن العمل في صفوف الشباب والمواطنين، وبالمقابل لا تجد فئة عاطلة عن العمل في أوساط مريدي الحركة وأبنائهم.
في الأشهر الأولى لانتشار جائحة كورونا، أُصيب عدد من قيادات الدرجة الثانية من حركة حماس بفايروس كورونا، وكانوا قد عادوا للتو من طهران، فما كان من القسام، الذراع العسكري والأمني للحركة، إلا القيام بالسيطرة على فندق المتحف بمدينة غزة، وطرد أصحابه وإدارته، وحجر أبنائهم وعائلاتهم فيه، وتقديم رعاية صحية عالية لهم، إلى أن تجاوزوا أزمتهم الصحية، والآن وبعد تفشي المرض بين المواطنين في قطاع غزة اختلفت السياسات في التعاطي مع المحجورين، فقد تم زجهم في المدارس وبطريقة مهينة دون تقديم أية خدمات صحية سوى الالتزام الحديدي بما يسمى التباعد الاجتماعي، في حين ظلت الفنادق ونجومها مأوى أبناء الحركة ومصابيها مع الحفاظ على درجة عالية من الرعاية والمتابعة الصحية.
حدثني صديق يعمل ممرضاً في المستشفى الأوروبي المخصص لمصابي الفايروس الذين تبدو أعراض المرض واضحة عليهم، عن الموتى الذين سقطوا خلال الشهرين الآخرين، وقال إن جميعهم قضوا نتيجة الإهمال وعدم المتابعة، حيث أن حالتهم الصحية مستقرة وقد لا تفضي إلى الموت، لكن الفوضى والتخبط الإداري الناجم عن كوادر إدارية غير مؤهلة كانت سبباً رئيساً في سقوط عدد كبير من الضحايا، وكان يمكن وبقليل من الاهتمام والرعاية ألا يكونوا في عداد الأموات.
الممارسات التمييزية كانت وما زالت أكثر وضوحًا في إغاثة المواطنين المتضررين من الجائحة، والملتزمين داخل بيوتهم على مدار الأيام والأسابيع التي فرض فيها منع التجول، حيث يقوم أمير المسجد (وما أكثر المساجد في قطاع غزة) بتحديد الأسر التي يجب توزيع السلال الغذائية والإغاثية العاجلة لها، وعادة يتم توزيع السلال في جنح الظلام بعيدًا عن أعين المواطنين، معتقدين أن سكان المنطقة قد خلدوا إلى النوم والشرط الأساسي لوصول سلة غذائية أو طرد إغاثي لهذه الأسرة أو تلك ليس أن تصلي حاضراً صلاة الفجر في مسجد هذا الأمير أو ذاك، وإنما أن تكون مريداً له… الناس هنا تتناقل تفاصيل يومية غاية في الوجع عن الجوع والعوز؛ الذي يفتك بآلاف الأسر المستورة دون أن ترف أجفان أمراء المساجد لحظة توزيع عطاياهم لمريديهم، فهم القائمون عليها وهذا ديدنهم.
وفي هذا السياق، تبدو العلاقة ملتبسة بين سلطتي رام والله وحماس، ففي الوقت الذي تقدم السلطة الفلسطينية كل الدعم المالي واللوجستي للقطاع الصحي في قطاع غزة، إلا أنها لا تعرف بالضبط كيف يتم توزيع المستلزمات الطبية على المستشفيات والمراكز الصحية. مخازن وزارة الصحة في غزة تمتلئ بالمستلزمات وفجأة تختفي، لتبدأ المستشفيات والمراكز الصحية بالشكوى من نقص الأدوية وتلف الأجهزة وندرة المحاليل، وفي معظم الأحيان تخرج الشكوى من غرف العمليات، حيث لا كحول ولا شاش لتعقيم وتضميد الجروح، وتبدأ معاناة العاملين لأيام أو أسابيع بسبب النقص في أبسط المستلزمات الصحية، إلى أن يتم توريد بعض ما تم إخفاؤه أو توزيعه على المؤسسات الصحية التابعة للحركة الربَّانية إدارياً ومالياً.
من المعروف إحصائياً أن 70% من سكان قطاع غزة هم من الفلسطينيين الذين لجأوا إلى قطاع غزة من أقضية محدّدة، وهي قضاء يافا وقضاء الرملة وقضاء بئر السبع وقضاء غزة، لذا فإن معظم سكان القطاع لاجئون من مدن وقرى، هذه الأقضية الأربعة إبان نكبة 1948، لجأوا إلى الجنوب في هذا الشريط الساحلي الذي يسمى قطاع غزة، والذي انفصل عن قضاء غزة وقت النكبة، مؤقتاً إلى حين عودتهم مرة أخرى إلى ديارهم وممتلكاتهم، ومنذ 1948 إلى اليوم وهم ينتظرون يوم عودتهم وبعد أكثر من سبعة عقود ما زال الأمل منتصباً أمام أعينهم آملين في يوم عودتهم إلى ديارهم.
لقد كانت النكبة الكبرى لهذا الخليط السكاني غير المتجانس، قاسماً مشتركاً، إذا أخدنا بعين الاعتبار سكان قطاع غزة أصحاب الأرض ومقدراتها، وقد أعادت صياغته الحروب، وغيرت من تركيبته الطبقية والمستجدات الاقتصادية تحت الاحتلال، إلى أن أفرزت قيماً جديدة ومفاهيم حياتية غير مسبوقة لهذا التجمع السكاني الطارئ على مدار العقود السبعة الماضية.