غسان كنفاني: حين تنتمي الثقافة لوجع المقهورين
يصادف اليوم الذكرى الثامنة والأربعين لاستشهاد الكاتب والمثقف الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. فجّر العدو غسان كنفاني في ضاحية الحازمية ببيروت يوم الثامن من تموز عام 1972، ليتناثر جسده شظايا في الهواء، ولينتشر فكرًا وممارسة في روح أجيال لا زالت تقتات على ما كتبه من أدب وفن وفكر.
لعلنا في ذكرى استشهاده نتمثّل لما قال:
“إننا نتعلم من الجماهير ونعلمها، ومع ذلك فإنه يبدو لي يقينًا أننا لم نتخرج بعد من مدارس الجماهير، المعلم الحقيقي الدائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءًا لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب.”
غسان كنفاني: حين تنتمي الثقافة لوجع المقهورين
من يتذكّر مجزوءة رواية “العاشق”، الرواية التي لم تكتمل؟ من يتذكر ذاك الثائر الذي “تمزعت قدماه الحافيتين من الصخر والشوك” حين حضر ليسمع خطاب الزعيم، فاختصر المشهد بقوله “أنا الذي تمزقت قدماه من الصخر والشوك وتصفقون لهذا؟!”، هذا هو حال الثقافة في بلدنا، تصفيق للزعيم وإنكار لمن تقرح جسمه في رطوبة الزنازين.
تمرّ اليوم ذكرى ثمانية وأربعين عامًا على استشهاد من استشعر العدو مبكرًا خطره، ذاك المقاتل الذي لم يحمل سلاحًا. كانت فكرته الطلقة وكان قلمه السلاح، كان سابقًا لأوانه، فاستعجلوا موته. إنه غسان كنفاني، الذي لو لم يتعمد بالدم لكان ملأ المكتبة الفلسطينية برواية كفاح شعب آثر العناد مع الجوع على الاستكانة والتكرّش، لكان زرع فينا كل يوم بذرة أمل في يباب اليأس الذي نعيش.
لا تعد إلينا يا غسان، لأنك ستلوي وجهك عنا باصقًا أو غاضبًا، وتقول: ”ليس لأجل هذا سال دمنا، ولا لأجله فكرنا بالثورة”. لا تعد إلينا فقد صرنا نتسوّل دولةً بدل أن نبني وطنًا. صرنا نكتفي بالرمز بدلاً من الواقع، ونجهد أنفسنا لنقول: “هذا السراب الذي في الأفق عند حافة الجبل ليس سرابًا، إنما هو ماء”. فإذا وصلنا إليه… استغربنا وقلنا: “لماذا ابتعد الماء؟”، ولم نمتلك بعد أي جرأة للتحلل من وهمنا بالسراب.
ابقَ مكانك بين ثوّار عرفتهم، حيث الروح تفوح بعبق الوطن. ستجد هناك جذور دالية أم سعد تحاول أن تعيد الدم في عروقك. ابقَ هناك فقلب يرف بالحنين إلى وطن حر، أفضل ألف مرة من عقل مهزوم يحاول تبرير انكساره. هناك لديك جيش من الثوّار، وهنا ليس لدينا سوى قطيع من المصفقين.
إذا أردت أن تعرف عن حال أقلامنا، فقد أصبحت ملوثة بالنفط ومال يقطر هزيمة. أقلام تتبجح بانتصارات لا ورق فيها، انتصارات تكتب على سراب. وإن سألت عن عكا… فسورها ما زال صلدًا عصيًا وعربيًا يأبى التهويد. إن سألت عن حيفا وكرملها، فشاطئها يئن من وطء الغزاة لرمله.
وإن سألت عن مصير زكريا النتن وأبي الخيزران، فقد تكاثروا مثل كورونا. عذرًا، أنت لا تعرف الكورونا، ولكني على ثقة أنك تدرك ما أقول. أما أم سعد وصفية، فتلاحقهن الضرائب وحملات التفتيش على باعة البسطات، لقد سرقوا منهما الحلم وتركوهن على الأرصفة يتسوّلن حسنات المُنعّمين.
كل شيء هنا في الوطن معروض للمساومة، من رغيف الخبز حتى الشرف الوطني. كل شيء هنا في الوطن بات سلعة أو مركز لهو، والعدو ينتهك ليلنا ونهارنا وأحلامنا كل لحظة وكلنا نحلل ونفسر. لكن لا نصرخ، فالصرخة يكتمها الخوف الذي زرعته الهزيمة يقتلنا الجوع وانتظار غد لا زلنا نحلم به.
أما إن سألت عن سعد ورفاقه فهم في السجون العدوة والصديقة، بنادقهم باتت مطاردة. لكنهم حتى الآن لم يعلنوا انكسارًا، يعاندون صخرة بروموثيوس، ويصرّون ألا يكونوا مثله، يصرّون على وصول الصخرة لقمة الجبل.